العقول السنجابية
بقلم : جمال الشاعر
{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء : 37]
فرح الرجل وشرع يزرع الأرض مسرعاً ومهرولاً في جنون .. سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها ..
ولكنه غيّر رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد .. سار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفياً بما وصل إليه ..
لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد والمزيد ..
ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد أبداً .. فقد ضل طريقه وضاع في الحياة ، ويقال : إنه وقع صريعاً من جراء الإنهاك الشديد !!
لم يمتلك شيئاً ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة لأنه لم يعرف حد الكفاية (القناعة).
النجاح الكافي صيحة أطلقها لوراناش وهوارد ستيفنسون .. يحذران فيها من النجاح الزائف المراوغ الذي يفترس عمر الإنسان فيظل متعطشاً للمزيد دون أن يشعر بالارتواء ..
من يستطيع أن يقول لا في الوقت المناسب ويقاوم الشهرة والأضواء والثروة والجاه والسلطان ؟
لا سقف للطموحات في هذه الدنيا .. فعليك أن تختار ما يكفيك منها ثم تقول نكتفي بهذا القدر .. ونواصل الإرسال بعد الفاصل .. بعد فاصل من التأمل يتم فيه إعادة ترتيب أولويات المخطط ..
الطموح مصيدة.. تتصور أنك تصطاده .. فإذا بك أنت الصيد الثمين.. لا تصدق ؟!..
إليك هذه القصة :
ذهب صديقان يصطادان الأسماك فاصطاد أحدهما سمكة كبيرة فوضعها في حقيبته ونهض لينصرف ..
فسأله الآخر : إلى أين تذهب ؟!.. فأجابه الصديق : إلى البيت لقد اصطدت سمكة كبيرة جداً تكفيني ..
فرد الرجل : انتظر لتصطاد المزيد من الأسماك الكبيرة مثلي ..
فسأله صديقه : ولماذا أفعل ذلك ؟!.. فرد الرجل.. عندما تصطاد أكثر من سمكة يمكنك أن تبيعها ..
فسأله صديقه : ولماذا أفعل هذا ؟!.. قال له : كي تحصل على المزيد من المال ..
فسأله صديقه : ولماذا أفعل ذلك ؟!.. فرد الرجل : يمكنك أن تدخره وتزيد من رصيدك في البنك ..
فسأله: ولماذا أفعل ذلك؟!.. فرد الرجل: لكي تصبح ثرياً ..
فسأله الصديق: وماذا سأفعل بالثراء؟!.. فرد الرجل تستطيع في يوم من الأيام عندما تكبر أن تستمتع بوقتك مع أولادك وزوجتك ..
فقال له الصديق العاقل : هذا هو بالضبط ما أفعله الآن .. ولا أريد تأجيله حتى أكبر ويضيع العمر ..
رجل عاقل.. أليس كذلك ؟!!
يقولون : المستقبل من نصيب أصحاب الأسئلة الصعبة ، ولكن الإنسان ـ كما يقول فنس بوسنت ـ أصبح في هذا العالم مثل النملة التي تركب على ظهر الفيل .. تتجه شرقاً بينما هو يتجه غرباً !!.. فيصبح من المستحيل أن تصل إلى ما تريد .. لماذا ؟ لأن عقل الإنسان الواعي يفكر بألفين فقط من الخلايا ، أما عقله الباطن فيفكر بأربعة ملايين خلية !!..
وهكذا يعيش الإنسان معركتين .. معركة مع نفسه ومع العالم المتغير المتوحش .. ولا يستطيع أن يصل إلى سر السعادة أبداً.
يحكى أن أحد التجار أرسل ابنه لكي يتعلم سر السعادة لدى أحكم رجل في العالم .. مشى الفتى أربعين يوماً حتى وصل إلى قصر جميل على قمة جبل .. وفيه يسكن الحكيم الذي يسعى إليه .. وعندما وصل وجد في قصر الحكيم جمعاً كبيراً من الناس .. انتظر الشاب ساعتين حتى يحين دوره .. أنصت الحكيم بانتباه إلى الشاب ثم قال له : الوقت لا يتسع الآن وطلب منه أن يقوم بجولة داخل القصر وأن يعود لمقابلته بعد ساعتين ..
وأضاف الحكيم و هو يقدم للفتى ملعقة صغيرة فيها نقطتان من الزيت : أمسك بهذه الملعقة في يدك طوال جولتك وحاذر أن ينسكب منها الزيت !!..
أخذ الفتى يصعد سلالم القصر ويهبط مثبتاً عينيه على الملعقة .. ثم رجع لمقابلة الحكيم الذي سأله : هل رأيت السجاد الفارسي في غرفة الطعام ؟.. الحديقة الجميلة ؟.. وهل استوقفتك المجلدات الجميلة في مكتبتي ؟.. ارتبك الفتى واعترف له بأنه لم ير شيئاً ؛ فقد كان همه الأول ألا يسكب نقطتي الزيت من الملعقة .. فقال الحكيم: ارجع وتعرف على معالم القصر .. فلا يمكنك أن تعتمد على شخص لا يعرف البيت الذي يسكن فيه .. عاد الفتى يتجول في القصر منتبهاً إلى الروائع الفنية المعلقة على الجدران .. شاهد الحديقة والزهور الجميلة.. وعندما رجع إلى الحكيم قص عليه بالتفصيل ما رأى .. فسأله الحكيم: ولكن أين قطرتا الزيت اللتان عهدت بهما إليك؟!!
نظر الفتى إلى الملعقة فلاحظ أنهما انسكبتا .. فقال له الحكيم : تلك هي النصيحة التي أستطيع أن أسديها إليك :
سر السعادة هو أن ترَ روائع الدنيا و تستمتع بها دون أن تسكب أبداً قطرتي الزيت !!..
فهم الفتى مغزى القصة فالسعادة هي حاصل ضرب التوازن بين الأشياء ، و قطرتا الزيت هما الستر والصحة .. فهما التوليفة الناجحة ضد التعاسة.
يقول إدوارد دي بونو : أفضل تعريف للتعاسة هو أنها تمثل الفجوة بين قدراتنا و توقعاتنا .. إننا نعيش في هذه الحياة بعقلية السنجاب .. فالسناجب تفتقر إلى القدرة على التنظيم رغم نشاطها و حيويتها .. فهي تقضي عمرها في قطف و تخزين ثمار البندق بكميات أكبر بكثير من قدر حاجتها ..
اللهم ارزقنا القناعة والصحة والعافية.
مــقالة جميــلة جــدا ومفيــدة
شـكرا لك أخي بشير وبارك الله فيك.